سورة غافر - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (غافر)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {وقال الذي آمن} مخاطباً قومه: {يا قوم إِني أخافُ عليكم} في تكذيب موسى، والتعرُّض له بسوء، {مثلَ يومِ الأحزاب} أي: مثل أيام الأمم الماضية المتحزبة على رسلها، يعني وقائعهم. وجمْعُ الأحزاب مع التفسير أغنى عن جمع اليوم، أي: بالإضافة، وفسره بقوله: {مثلَ دأبِ قومِ نوحٍ وعادٍ وثمودَ والذين من بعدهم}؛ كقوم لوط وشعيب، لم يُلْبَسْ أنّ كلّ حزب منهم كان له يوم دَمَار، فاقتصر على الواحد من الجمع. ودأب هؤلاء: دؤوبهم في عملهم من الكفر، والتكذيب، وسائر المعاصي، حتى دمَّرهم الله. ولا بد من حذف مضاف، أي: مثل جزاء دأبهم وهو الهلاك. و{مثل} الثاني: عطف بيان لمثل الأولى. {وما الله يريد ظلماً للعباد}؛ فلا يُعاقبهم بغير ذنب، أو: يزيد على ما يستحقونه من العذاب، يعني أن تدميرهم كان عدلاً؛ لأنهم استحقوه بأعمالهم، وهو أبلغ من قوله: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]؛ حيث جعل المنفي إرادة الظلم مُنْكَراً، وإذا بعُد عن إرادة ظُلم مَا لعباده؛ كان عن الظلم مُنْكَراً، وإذا بعُد عن إرادة ظُلمٍ مَا لعباده؛ كان عن الظلم أبعد وأبعد. وتفسير المعتزلة: بأنه لا يريدُ لهم أن يظلموا، بعيد؛ لأن أهل اللغة قالوا: إذا قال الرجل لآخر: لا أريد ظلماً لك، معناه: لا أريد أن أظلمك، وهذا تخويفٌ بعذاب الدنيا. ثم خوَّفهم من عذاب الآخرة بقوله: {ويا قومِ إِني أخاف عليكم يوم التَّنَادِ} أي: يوم القيامة؛ لأنه ينادي فيه بعضُهم بعضاً للاستغاثة، ويتصايحون بالويل والثبور، وينادي أصحابُ النار أصحابَ الجنة، وأصحابُ الأعراف رجالاً يعرفونهم، وعن الضحاك: إذا سمعوا زفير النار نَدُّوا هرباً، فلا يأتون قُطراً من الأقطار، إلا وجدوا ملائكة صفوفاً، فيرجعون إلى مكانهم، فبينما هم يموج بعضهم في بعض، إذ سمعوا منادياً: أقبلوا إلى الحسابِ. أو: ينادي مناد عند الميزان: ألا إن فلاناً بن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً، ألاَ إِن فلان بن فلان شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبداً. قال ابن عطية: المراد التذكير بكل نداء في القيامة فيه مشقة على الكفار والعصاة، وذلك كثير. اهـ.
ثم أبدل من يوم التناد: قوله: {يوم تُولُّون مدْبرين} أي: منصرفين عن القوم إلى النار، أو: فارِّين منها غير معاجزين، {ما لكم من الله من عاصم} يعصمكم من عذابه، ولمَّا أيس من قبولهم قال: {ومَن يُضلل الله فما له من هادٍ} يهديه إلى طريق النجاة.
الإشارة: ينبغي للواعظ والمُذكِّر إذا ذكَّر العصاة أن يُخوفهم بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة، كما فعل مؤمن آل فرعون، أما عذاب الدنيا فما يلحق العاصي من الذُل والهوان عند الله، وعند عباده، وما يلحقه إن طال عمره من المسخ وأرذل العمر، فإِنَّ المعاصي في زمن الشباب تجر الوبال إلى زمن الهرم، كما أن الطاعة في حال الشباب تجر الحفظ والرعاية إلى حال الكِبَر، وأما عذاب الآخرة فمعلوم، ثم يحضّ على التوبة والإقلاع، فإنَّ التائب الناصح مُلحَق بالطائع، فلا يلحقه شيء من ذلك. وبالله التوفيق.


قلت: {الذين يُجادلون}: بدل مِن {مَن هو} وإنما جمع؛ لأنه لم يرد مسرفاً واحداً، بل كل مسرف.
يقول الحق جلّ جلاله: حاكياً لقول المؤمن: {ولقد جاءكم يوسُف}، هو ابن يعقوب، وقيل: يوسف بن إفراثيم بن يوسف بن يعقوب، أقام فيهم نبيّاً عشرين سنة، وقال وهب: فرعون موسى هو فرعون يوسف، عمَّر إلى زمنه، وقيل: هو فرعون آخر؛ لأن كل مَن ملك مصر يُقال له فرعون، وهذا أظهر. وقول الجلال المحلي: هو يوسف بن يعقوب في قولٍ، عمّر إلى زمنه، سهو. وإنما قيل ذلك في فرعون لا في يوسف.
قلت: والتحقيق: أنه وبّخهم بما فعل أسلافهم؛ لأنهم على مِنوالهم، راضون بما فعلوا، فالمراد بيوسف، هو الصِّدِّيق، فما زالوا مترددين في رسالته حتى مات، واستمر خلفهم على ذلك إلى زمن موسى، وقوله تعالى: {من قبلُ} أي: من قبل موسى، أي: جاءكم يوسف {بالبينات}؛ بالمعجزات الواضحة، كتعبير الرؤيا، ودلائل التوحيد، كقوله: {ءَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ...} [يوسف: 39] الآية، وملكه أموالهم ورقابهم في زمن المسبغة، وغير ذلك مما دلّ على رسالته. {فما زلتم في شكٍّ مما جاءكم به} من الدين {حتى إِذا هَلَكَ} بالموت {قُلْتم لن يبعثَ الله من بعده رسولاً}، حكماً من عند أنفسكم، من غير برهان، أي: أقمتم على كفركم، وظننتم أن لا يجدّد عليكم إيجاب الحجة.
قال القشيري: يقال: إن تكذيبهم وتكذيب سلفهم للأنبياء عليهم السلام كان قديماً حتى أهلكهم، كذلك يفعل بهؤلاء. اهـ.
{كذلك يُضِلُّ الله مَن هو مُسْرِفٌ مرتابٌ} أي: مثل ذلك الإضلل الفظيع يُضل الله مَن هو مسرف في عصيانه، شاكّ في دينه، لم يتفكّر فيما شهدت البينات بصحته؛ لِغلبة الوهم، والانهماك في التقليد.
ثم فسّره فقال: {الذين يُجادِلون في آيات الله} بالرد والإبطال {بغير سلطانٍ}؛ بغير حجة واضحة، تصلح للتمسُّك بها في الجملة، {أتاهم}: صفة لسلطان، أي: بغير برهان جاءهم بصحة ذلك، {كَبُرَ مقتاً} أي: عَظُمَ بُغضاً {عند الله وعند الذين آمنوا}، وفيه ضرب من التعجُّب والاستعظام. وفي {كبُر} ضمير يعود على {مَنْ} وتذكيره باعتبار اللفظ. {كذلك} أي: مثل ذلك الطبع الفظيع {يَطْبَعُ الله على كل قلب متكبر جبَّار} فيصدر منه أمثال ما ذكر من الإسراف، والارتياب، والمجادلة بالباطل. ومَن قرأ بالتنوين فوصف لقلب، وإنما وصف بالتكبُّر والتجبُّر؛ لأنه منبعهما، كما تقول: سَمِعَتِ الأذنُ، كقوله: {فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] وإن كان الإثم للجملة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يُقال لأهل كل عصر: ولقد جاءكم فلان لوليِّ تقدم قبلهم بالآيات الدالة على صحة ولايته، فما زلتم، أي: ما زال أسلافكم من أهل عصره في شك منه، حتى إذا مات ظهرت ولايته، وأقررتم بها، وقلتم: لن يبعث الله من بعده وليّاً، وهذه عادة العامة، يُقرون الأموات من الأولياء، ويُنكرون الأحياء. وهي نزعة أهل الكفر والضلال كذلك يُضل الله مَن هو مسرف مرتاب، كالذين يُخاصمون في ثبوت الخصوصية عند أربابها، من غير برهان، وهو شأن المنكرين، كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار.


يقول الحق جلّ جلاله: {وقال فرعونُ} تمويهاً على قومه، وجهلاً منه: {يا هامانِ} وزيره {ابنِ لي صَرْحاً} أي: قصراً عالياً، وقيل: الصرح: البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر وإن بَعُد منه. يقال: صَرِح الشيءُ: إذا ظهر. {لعلِّي أبلُغُ الأسبابَ} أي: الطرق. ثم أبدل منها تفخيماً لشأنها، وإظهاراً أنه يقصد أمراً عظيماً: {أسبابَ السماوات} أي: طرُقها وأبوابها، وما يُؤدّي إليها، وكل ما أدّاك إلى الشيء فهو سبب إليه، {فأَطَّلِعَ إِلى إِله موسى} أي: فأنظر إليه وأتحقق وجوده، قرأه حفص بالنصب، جواب التمني، والباقي بالرفع، عطفاً على {أبلغ}. قال البيضاوي: ولعله أراد أن يبني له صرحاً في موضع عال، يرصد منه أحوال الكواكب، التي هي أسباب سماوية، تدلّ على الحوادث الأرضية، فيرى هل فيها ما يدلّ على إرسال الله تعالى إياه، أو أن يرى فساد قوله عليه السلام؛ فإنّ إخباره عن إله السماء يتوقف على اطلاعه ووصوله إليه، وذلك لا يتأتى إلا بالصعود للسماء، وهو مما لا يقوى عليه الإنسان، وما ذلك إلا لجهله بالله وكيفية استنبائه. اهـ.
قلت: والظاهر أنه كان مجسّماً، يعتقد أن الله في السماء، وأن اطلاعه إليه إنما كان ليرى هل ثَم إله، وإن قوله: {وإِني لأظنه كاذباً} أي: في ادّعاء إله غيري، بدليل قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِى} [القصص: 38] مع أنَّ هذا كله إنما هو تمويه منه على قومه، وجرأة على الله، لا حقيقة له.
قال تعالى: {وكذلك} أي: ومثل ذلك التزيين المفرط، والصدّ البليغ، {زُيِّنَ لفرعونَ سوءُ علمه} فانهمك فيه انهماكاً لا يرعوي عنه بحال، {وصدَّ عن السبيل} أي: سبيل الرشاد، وقرأ الكوفون ويعقوب {وصُدّ} بالبناء للمفعول، فالفاعل في الحقيقة فيهما هو الله، بتوسط الشيطان في عالم الحكمة، ومَن قرأ {صَدّ} بالبناء للفاعل، فالفاعل: فرعون، إما صدّ الناس عن طريق الحق بأمثال هذه التمويهات، أو: اتصف بالصدّ. {وما كيدُ فرعون إِلا في تَبابٍ} أي: خسران وهلاك.
الإشارة: ما ظهر على فرعون هو من طغيان النفس وعتوها، فإنَّ النفس إذا اتصلت بها العوافي، وساعدتها أقدار الجمال في الظاهر، ادَّعت الربوبية، فإنَّ فرعون قيل: إنه عاش أربعمائة سنة، لم يتوجع فيها قط، فادّعى الربوبية، ولذا قال بعض الصوفية: في النفس خاصية ما ظهرت إلا على فرعون، حين قال: أنا ربكم الأعلى، فكان نزول الأقدار القهرية والبلايا على العبد، رحمة عظيمة، تتحقق بها العبودية، التي هي شرف العبد ورفعته. وبالله التوفيق.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8